Select your language  

 

الطاقة الشمسية و الشفرة الوراثية و الأنترنت
أدوات الثورات العلمية القادمة

تأليف: البروفيسور فريمن دايسن
عرض: د. نضال قسوم
- أستاذ بالجامعة الأميركية بالشارقة

 

ملخص:
 
انطلاقا من التطورات الراهنة في العلوم والتكنولوجيا، يرسم لنا الكاتب صورة لمستقبل مشرق يمكن للبشرية أن تخلقه لنفسها: إذا عملنا بنصائحه وتوجيهاته، فسوف يأتي يوم تترابط فيه البشرية جمعاء بشبكة عملاقة تعتمد على مجموعة كبيرة من الأقمار الصناعية الصغيرة للاتصالات، تعمل بموجات الراديو وأشعة الليزر، بحيث تكون كل بقعة من الأرض على اتصال بأحد الأقمار في كل لحظة؛ وستتوفر الكهرباء في المناطق النائية بفضل مزارع مُهندسة وراثيا لتحويل ضوء الشمس إلى خام كربوني ثم إلى تيار، ويمكن حينها تشغيل كل الأجهزة والمرافق - بما فيها أجهزة الاتصال - عبر الأقمار الصناعية والإنترنت!

1- مقدمة:
 
يعتبر فريمن دايسن شخصية فريدة من نوعها في الفيزياء والعلوم... ولد في إنجلترا ولكنه عاش الخمسين سنة الأخيرة في أمريكا، قضى معظمها في معهد الدراسات المتقدمة بجامعة برنستن (الذي عمل فيه آينشتاين حتى مات). وقد اشتهر بالخصوص بتوحيده لنظريات الديناميكا الكهربائية الكوانتية، ولكن مساهماته شملت عشرات المواضيع والمجالات الأخرى، خاصة أعماله في دراسات المستقبل البعيد جدا والمبدأ الأنثروبي (أي البشري). وقد ألّف حوالي اثني عشر كتابا لحد الآن، بين متخصص وعام، نذكر منهم على وجه الخصوص:  

- "إزعاج الكون"، وهو مذكرات علمية ممزوجة بأفكاره حول الحالة البشرية، وقد لاقى رواجا منقطع النظير، 

- "أسلحة وأمل"، وهو تأمل آخر في الطبيعة البشرية وكيف يجب أن تواجه العصر النووي بما يحمل من أخطار مصيرية،

- "لا نهائي في كل الاتجاهات"، الذي وجّه فيه أنظاره إلى الخارج عوض الداخل، حيث يتّجه الجنس البشري وحضارته.

وعرف دايسن كمفكر بارع وكعالم ذي قدرات هائلة وواسعة، وأيضا كمحاضر وكاتب موهوب وشيّق. وقد تحصّل من قبل على جوائز عديدة، منها فيما يهمنا هنا الجائزة الوطنية لنقاد الكتب وغيرها من التشريفات لمساهماته العلمية والفكرية. في كتابه الشهير السابق "لا نهائي في كل الاتجاهات"، قدّم دايسن تنبؤاته بأهم التطوّرات العلمية الحضارية القادمة، وكانت: الهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي والأسفار الفضائية. وبعد نحو عشر سنوات، ها هو يقدّم لنا كتابا (جمعه من سلسلة محاضرات ألقاها في مكتبة نيويورك العامة خلال عام 1997 لتنشر في شكل كتاب متجانس في ربيع 1999)، يصف فيه المستقبل الذي يأمل أن تأتي به العلوم والتكنولوجيا الحالية. ومن خلال هذا العرض يقدم دايسن تصورا كاملا، جميلا ومتفائلا، للحياة القادمة، نسج فيه خيوطا ملوّنة من العلم والأخلاق والتكنولوجيا والفلسفة.

وهذه المرة هو مهتم بالمدى القريب أكثر من البعيد، ولذلك نجده يشطب على الأسفار الفضائية منذ البدائية، ويبرّر ذلك بالعثرات العديدة والإخفاقات التي لاحظها في مشروعي وكالتي الفضاء الأمريكية والروسية (محطة "مير" على الخصوص). وكذلك الأمر في نظره بالنسبة للذكاء الاصطناعي، إذ لا نرى اليوم روبوتات أو أنظمة أذكى مما كانت عليه قبل 15 عشرة. أما فيما يتعلق بالهندسة الوراثية فالأمر طبعا مختلف تماما، فقد شهد المجال تقدما سريعا ومفاجئا، إذ وَضَعَت لنا الشاة "دوللي" ومشروع "فك الشفرة الوراثية" ميدان البحث هذا في مقدمة الاهتمامات العلمية الراهنة، بل ربما ستشكل هاجس البشرية الأكبر (نقصد من الناحية الفكرية والفلسفية) خلال العشريات القادمة.

ومن البديهي أيضا أن تطوّرا عظيما آخر حدث منذ تنبؤات دايسن السابقة، هو شبكة الانترنت. فقد صارت هذه الأخيرة، "عصب الحياة العصرية" (على حد تعبير المؤلف)، شيء لم يكن حتى بل غيتس يستطيع التنبؤ به قبل عشر سنوات...

أما المجال الثالث الذي أضافه دايسن لقائمته، فلم يكن بديهيا ولن يحضى بالإجماع، ويعترف المؤلف أن اختيار "الطاقة الشمسية" كان شخصيا أكثر منه موضوعيا، ويشرح ذلك بقوله إن هذه التكنولوجيا هي الكفيلة بنشر التطور والتقدم بما في ذلك إيصال الإنترنت إلى مختلف أنحاء المعمورة، خاصة وأن المناطق الأكثر تختلفا هي التي تتمتع بنصيب أوفر من الأشعة الشمسية.

2- أطروحة الكتاب
 
تقوم فلسفة دايسن على مبدأين اثنين: أولهما أن التكنولوجيا للأسف الشديد لا تشكل أهم عامل دفع في التطورات التاريخية (فالسياسة والدين، والاقتصاد والايديولوجيا، والنزاعات العسكرية والثقافية كلها أهم)، وثانيهما أنه يتوجب على العلماء أن يدفعوا ويشجعوا التكنولوجيا التي تكون صغيرة في الغالب وتساهم في تسهيل حياة البشر وتحسين وضعهم العام من شتى النواحي.

ويعترف مفكرنا أنه ظل متأثرا بمقولة صرح بها أستاذه الرياضي الكبير غودفري هاردي: "يقال عن علم ما أنه مفيد إذا أدى تطوره إلى توسيع الفوارق في الثروة ونمط الحياة لدى الأفراد والفئات، والى إحداث دمار أكبر في محيط الحياة". وطبعا كان هاردي يعبّر بتهكّم مرير واستهزاء عميق عن نقده لما كان يمثل في عصره "تطبيقات" العلوم. ويوضح لنا دايسن، الذي كان في الأصل فيزيائيا نظريا بحتا، أن هذا جعله يهتم بالجانب التطبيقي للعلم وبالمشاريع الصغيرة والأبحاث التي تهتم بتطوير تطبيقات مفيدة في حياة الإنسان.

ولذلك نجد هذا الكتاب، المسوم بـ’’الطاقة الشمسية، والشفرة الوراثية، والإنترنت‘‘، يحمل عنوانا تحتيا توضيحيا هو ’’أدوات الثورات العلمية القادمة‘‘. فمن خلال هذه المجالات الحيوية الراهنة والمستقبلية، يريد دايسن أن يناقش أولا فكرة هامة هي: كيف تولد الثورات العلمية؟  فالجواب عن هذا السؤال ظل يقدّم من طرف فلاسفة العلم في إطار النسق الذي وضعه توماس كون في كتابه التاريخي والشهير "بنية الثورات العلمية" (الصادر أصلا سنة 1962 والمنشور باللغة العربية ضمن سلسة "عالم المعرفة" سنة 1992): أن ثورة علمية ما لا تحدث إلا عندما تأخذ مجموعة كبيرة من الباحثين في مجال ما بعين الإعتبار جملة من النتائج التي تناقض النظرية أو التفسير السائد والمتفق عليه. ولكن دايسن يرى أن كتابا هاما صدر سنة 1997 عن الفيزيائي بيتر غاليسن تحت عنوان "الصورة والمنطق" قد هزّ ذلك النسق الفكري (الذي ساد منذ صدور كتاب كون) بتقديمه تفسيرا جديدا لظاهرة ولادة الثورات العلمية في الشكل التالي:  أن تلك الثورات تظهر عندما تتوفر لدى الباحثين أدوات مبتكرة وأجهزة جديدة تسمح لهم بخوض آفاق وأعماق أكبر مما أتيح لهم من قبل. ويبدو أن هذه الفلسفة العلمية الجديدة تميل إلى إعادة التوازن بين كفة التفكير المحض وكفة الاستكشاف العلمي التجريبي.

ومن الطريف، كما يشير كاتبنا، أن كتاب غاليسن تزامن صدوره مع الخدعة التاريخية التي قام بها الفيزيائي آلن سوكال على المجلة الإجتماعية المحترمة "النص الإجتماعي"  Social Text، والتي أثبت من خلالها الخطأ الفادح في النظرية  القائلة بأن "العلم إنما هو تركيب إجتماعي وليس بنيانا موضوعيا مستقلا عن محيطه التاريخي". (للتذكير، قدم سوكال "بحثا" لتلك المجلة المحترمة تعمّد فيه خلط مفاهيم علمية محضة بمعاني اجتماعية، كما يفعله بعض المفكرين الاجتماعيين الحداثيين، واستنتج آراء نسبية "تقدمية"، يستطيع أي طالب من العلوم الدقيقة كشف خطئها، لكن هيئة تحرير المجلة الإجتماعية سقطت في الفخ ونشرت البحث، وتمت الخدعة... فأحدثت ضجة غير مسبوقة لا زالت تداعياتها متواصلة إلى اليوم!).

ويصرّح دايسن في هذا الكتاب المتفائل أنه يأمل أن تشكل الأدوات العلمية الثلاثة الكبرى المذكورة في العنوان أساسا لمستقبل أفضل للإنسانية، وفي نفس الوقت أساسا لتطورات هامة (وربما ثورات) في مجالات مختلفة من العلم.

3- الثورة (المستقبلية) الأولى: الهندسة الوراثية
 
يعتقد دايسن أن إحدى أهم التطورات الأولى التي سوف تنبثق عن ثورة الهندسة الوراثيةهي تكنولوجيا الفيروسات الاصطناعية. إذ صار بالإمكان (تقريبا) اليوم تصميم وتصنيع فيروسات تدخل الخلايا وتغيّر أو توقف عمليات حيوية محددة، وبالتالي القضاء على داء معيّن أو إحداث تغييرات في صفات فرد ما. ويأمل الباحثون البيولوجيون أن يتم التوصل إلى صنع فيروس قادر على التعرف على الخلايا السرطانية والدخول إليها للقضاء عليها أو توقيف تكاثرها، إلى جانب تطبيقات طبية عديدة أخرى. وهكذا سيسمح الفيروس الإصطناعي باستبدال أدوات الجرّاح القاطعة وعقاقير العلاج الكيميائي المزعجة بعنصر أذكى وأدق وأقل ضررا من حيث الآثار الجانبية.

وعلى صعيد آخر نجد كثيرا من الأمراض البشرية سببها فقد البروتينات التي ينتجها الجسم في الأحوال العادية. ولا نستطيع استخراج هذه البروتينات بكميات كافية من الدم أو من الجثث البشرية، ولكنه بإمكاننا نقل جين بشري معيّن إلى حيوان محدد (بقرة مثلا) بحيث يقوم هذا الأخير بإفراز وإنتاج كميات مناسبة في الحليب، ثم يبقى علينا استخراج البروتين المطلوب من الحليب وهو شيء ممكن وسهل بالتكنولوجيا الحالية، رغم كونه مكلّف جدا ويتم بكفاءة محدودة، مما يجعل هذه البروتينات نادرة حاليا. ولذلك نجد علماء البيولوجيا والوراثة يفكرون جديا في مبدأ استنساخ البقرة الحاملة للجين البشري، بحيث لا نحتاج إلى عملية نقل ذلك الجين من البشر إلى الحيوان (العملية المكلفة) إلا مرة واحدة.

ولذلك يعتبر مشروع "الشفرة الوراثية البشرية"، الجاري حاليا والذي اقترب من النهاية، مشروعا ذا أهمية فائقة، بالنسبة للبيولوجيا إن لم يكن للبشرية ومستقبلها. هدف المشروع هو التعرف على السلسلة الكاملة للحمض الأميني البشرية وعدد قطعها يزيد عن 3 بليون وتدوينها. ورغم أن عملية التعرف والتدوين كان يُتوقّع أن تستغرق 15 عاما، إلا أن المنافسة الشديدة التي احتدمت مؤخرا يبدو أنها أوصلت إحدى فرق البحث إلى النجاح المبكر...

ويرى دايسن أن قرار التعرف على السلسة الكاملة كان قرارا خاطئا لأنه اتُخذ على أسس سياسية لا علمية. ففي نظره كان الأفضل أن يبحث في الـ10% الجوهرية من السلسلة، وتخصيص باقي الميزانية المحددة للمشروع من أجل تطوير طرق وأساليب للبحث والكشف تكون أكثر دقة وفاعلية من تلك المتوفرة حاليا. وفي هذا الصدد ينصح دايسن البيولوجيين باتّباع سلوك الفيزيائيين الذين جعلوا من طرق تطوير الأجهزة فرعا من الفيزياء ذاتها، توصل بعضهم من خلاله إلى الفوز بجائزة نوبل، وهذا أكبر دليل على أهمية هذا المجال في البحث العلمي.

ويستخلص هنا مفكّرنا عبرة في غاية الأهمية، مفادها أن تغيير أهداف وأساليب مشروع ما بعد انطلاقه يعتبر في السياسة خطأ ودليلا للضعف ولعدم القدرة على النظر بعيدا، ولكنه في العلوم يكون دليلا على الحكمة والقدرة على أخذ التطورات الجارية بعين الاعتبار. وللأسف في مشروع "الشفرة الوراثية البشرية"، طغت السياسة على العلم!..

4
- الثورة (المستقبلية) الثانية: الإنترنت
 
إن أهم وأكبر ميزة في تكنولوجيا المعلومات والإتصالات الجديدة هي ميلها نحو العولمة. فهي تتجاوز وتتجاهل حواجز اللغة والثقافة والتقاليد المحلية. وليست هناك أي عوائق تقنية تمنعها من ربط العالم وشعوبه بعضه ببعض. بل إن إمكانيات إيصال المعلومات اليوم صارت أسهل بكثير من قدرة البلدان على توصيل الماء والكهرباء وتوفير السكن والطب لشعوبها. طبعا ليس بوسع شبكة الإنترنت أن تحل مشاكل العالم الإجتماعية أو الإقتصادية، ولكننا بدأنا نلاحظ آثارها الإيجابية في مجالات عديدة ومتنوعة لم تخطر ببال أحد عندما خُطّط للشبكة. ولأن الإنترنت سيساهم في تقليص الفوارق في العالم، فإن دايسن يعتبره هنا بمثابة الثورة الإيجابية الثانية التي ستفرض نفسها في المستقبل القريب.

ولتوضيح الفكرة يقدّم لنا الكاتب مشابهة مفيدة في هذا السياق، فيقول إن استخدام الحاسوب والإنترنت هو مثل التأمين الصحي: كلنا نحتاجه ولكن معظم الفقراء لا يسعهم الحصول عليه. فالفئة المستخدمة للحواسب والشبكات، أولئك الذين يتجولون يوميا عبر الإنترنت ويتصفحون معلوماته بل ويربطون جزءا من حياتهم (المهنية والشخصية) بشبكة الاتصالات، هؤلاء يحصلون على سبق وتفوق هام على الفئات الأخرى، لأن كثيرا من الوظائف والصفقات (المتميزة خاصة) صارت تُعرض الآن على الإنترنت ويخطفها  "الموصولون" قبل أن يسمع عنها أو يراها الآخرون. ويحذّر الكاتب بأن ((الذين لا يطّلعون على مستجدات العالم عبر الإنترنت هم بصدد التحوّل إلى الطبقة الخادمة الجديدة، فالهوّة بين الموصولين وغير الموصولين تزداد وبسرعة متزايدة !..))

5- الثورة (المستقبلية) الثالثة: الطاقة الشمسية
 
من المفارقات الكبرى في عالم اليوم أن الطاقة الشمسية متوفرة كثيرا في البقاع التي تحتاج إليها بشكل مُلحّ جدا: في البوادي والصحاري أكثر بكثير منها في المدن، وفي البلدان الجنوبية (الفقيرة والمتخلفة) - حيث تعيش أكبر نسبة من سكان العالم - أكثر منها في المناطق الشمالية المتقدمة. ولكن لا أحد يستغلها هناك!..

ويمكن لنظام طاقة شمسي أن يحسّن نمط المعيشة في قرية فقيرة بشكل جذري، ذلك لأن قدرة طاقوية بسيطة بمستوى 30 أو 50 واط تشغل بضعة مصابيح من نوع النيون وجهاز استقبال راديو أو تلفزيون أبيض وأسود لعدة ساعات كل ليلة. وهذا يسمح للأطفال في بيوت القرية أن يدرسوا ويذاكروا في المساء وللقرية أن تكون على اتصال بباقي العالم. طبعا لا يمكن لـ50 واط من الطاقة أن تسيّر اقتصاد قرية مهما كان بسيطا، وهذا يعني أن قرية أو منطقة نائية ما لا يمكنها أن تعيش بشكل مقبول (بتعاريفنا اليوم) إلا إذا توفرت كميات أكبر بكثير من الطاقة. فهل هذا ممكن بالطاقة الشمسية؟

يستقبل كل كيلومتر مربع من المساحة في المناطق الاستوائية حوالي ألف ميغاواط (أي ألف مليون واط) من الطاقة كمعدل يومي. وهذا يكفي تماما لتوفير كل مستلزمات الحياة الحديثة لسكان قرية كاملة. إذن ما هو العائق؟ تكلفة تحويل الطاقة الشمسية إلى كهرباء لا تزال جد باهضة!

إن تكلفة تجهيز بيت متوسط ليعمل بالطاقة الشمسية بالكامل هي اليوم حوالي 500 دولار. وثمة إجماع لدى الخبراء والاقتصاديين أن الطاقة الشمسية لن تكون بديلا مقبولا اقتصاديا - عوضا للنفط - إلا إذا انخفضت تكاليف اللوحات الشمسية بخمس مرات!

هنا يتدخل كاتبنا باجتهاداته الذكية والثورية ويقترح تقنية تمزج بين الأنظمة الضوئية والبيولوجية! ففي تصوره يجب إنتاج نباتات جديدة تستطيع تحويل الطاقة الضوئية إلى خامات كربونية قابلة للحرق، ويجب أن تكون كفاءتها جيدة، بنحو 10% على الأقل، أي أحسن من الأغلبية الساحقة من اللوحات الشمسية. وكيف السبيل إلى إنتاج مثل هذه النباتات الممتازة؟ الهندسية الوراثية طبعا!..

وهكذا تكتمل الصورة للمستقبل المشرق الذي يمكن للبشرية أن تخلقه لنفسها، كما يتخيّله كاتبنا المتفائل: إذا عملنا بنصائحه وتوجيهاته، فسوف يأتي يوم تترابط فيه البشرية جمعاء بشبكة عملاقة تعتمد على مجموعة كبيرة من الأقمار الصناعية الصغيرة للإتصالات تعمل بموجات الراديو وأشعة الليزر، بحيث تكون كل بقعة من الأرض على اتصال بأحد الأقمار في كل لحظة. وستتوفر الكهرباء في المناطق النائية بفضل مزارع مهندسة وراثيا لتحويل ضوء الشمس إلى خام كربوني ثم إلى تيار، ويمكن حينها تشغيل كل الأجهزة والمرافق - بما فيها أجهزة الاتصال - عبر الأقمار الصناعية والإنترنت!

في ذلك اليوم ستشرق الشمس على أرض موحدة ومتعادلة، لا فرق فيها بين الشمال والجنوب ولا الشرق والغرب...

6- العشريات القادمة:
 
فى تصور دايسن، سوف تأتينا أكبر التطورات والمفاجآت في حياتنا من الإنترنت والهندسة الوراثية - خاصة بعد فك الشفرة البشرية - وليس من الشمس أو الفضاء.

ويسوق لنا الكاتب مثالين حديثين يعتبرهما من أكبر المفاجآت العلمية التي حدثت خلال السنوات الثلاثة الأخيرة: أولا استنساخ الشاة "دوللي" وهزيمة غاري كسباروف (بطل العالم للشطرنج) أمام كمبيوتر، إي تفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري لأول مرة.

ويرى دايسن في آفاق الاستنساخ البشري إمكانيات ونتائج هائلة وخارقة، بعضها إيجابي، وبعضها الآخر جد خطير على المستوى الإجتماعي والحضاري. فسوف يكون بوسع الآباء والأمهات قريبا كما يقول إمكانية استخدام تكنولوجيا الاستنساخ وهندسة الوراثة لتعويض جينات محددة لأطفالهم قبل "تكوينهم"، وهذا سيغيّر قدرات الأطفال الجسدية والعقلية، بحيث يُحمَون من أمراض وأعراض معيّنة ويُسلّحون بقدرات أخرى تُسهّل لهم الحياة وترفعهم بالنسبة لمن حولهم!.. ولكن هذه التكنولوجيا، في العقود الأولى على الأقل، ستكون باهضة الثمن على الأغلب، وهذا سيؤدي إلى توسيع الفارق بين طبقتي البشرية: "الغنية أو المطعّمة جينيا" و "الطبيعية" كما يسميهما الكاتب. ولا شك أن هذا سيدفع بالبشرية إلى التقسيم القديم: سادة وعبيد اللهم إلا إذا جُعلت هذه التكنولوجيا في متناول الجميع، وهذا غير متوقع!

ولكن دايسن يعي أنه إذا ما سُمح للهندسة الوراثية أن تعبث بحرية في الجينات البشرية، فإننا سوف ننقسم لا إلى طبقتين (سادة وعبيد) فقط بل إلى عدة أجناس، مقسّمة في فلسفتها ونمطها الحياتي (وفي ثروتها بالطبع). وستتحول تكنولوجيا الجينات إلى عامل انتقائي جديد وسريع، وقوي إلى حد أنه سيفرض حلا واحدا للفئات الدنيا: الهجرة من على الأرض!

وهكذا ستنطلق المغامرة البشرية من جديد... إنطلاقات عديدة! بعضنا سينطلق في الفضاء بحثا عن عوالم جديدة تحوينا بقدراتنا (مهما كانت حينئذ) وتسمح لنا باستثمارها، وبعضنا الآخر سينطلق في أشكال جديدة نحو حياة لا يمكن تصورها الآن.

إننا، على ما يبدو، أمام فجر جديد...

 
     
 
Sirius Astronomy Association
e-mail:siriusalgeria@hotmail.com
P.O Box 18, 20 August city Constantine- Algeria
Tel: 071 560658 | Fax: 031 935223

Last update: 1/ 10/ 2004
All rights reserved © Sirius 2004

WebmastersC. Mouatsi  
 
spacer